المسلمين واليهود والمسيحيّين والدّروز فى وداع عبد البهاء


نشر هذا المقال د باسمة موسى  بالحوار المتمدن 27-11-2010

رحل عبد البهاء ( مركز العهد والميثاق للدين البهائى والابن الارشد لرسول الدين البهائى) فى الساعة الواحدة والربع من صباح يوم 28 نوفمبر 1921 واليكم بعض وقائع هذا اليوم المهيب وكيف سار الاف المواطنين وراء من اطلقوا عليه ابو الفقراء و سفير الانسانية وابو المساكين ولكنه كان يفضل كلمة عبد البهاء .

أمّا موكب الجنازة الذي سار صباح الثّلاثاء – والّذي لم تشهد له فلسطين مثيلاً مِنْ قَبْلُ – فقد اشترك فيه ما لا يقلّ عَنْ عشرة آلاف نسمة تمثّل كلّ طبقة ودين وجنس فِي هذه البلاد. ولقد شهد المندوب السّامي فيما بعد فقال “اجتمعت جموع غفيرة آسفة عَلَى موته ومستبشرة بذكرى حياته”. وكذلك كتب السّير رونالد

ستورز حاكم القدس حينذاك فقال فِي وصف موكب الجنازة “لم أعرف قطّ تعبيرًا أشدّ اتّحادًا عن الأسف والاحترام كذلك الذي أوحت به بساطة ذلك الموكب المطلقة″.

وحمل التّابوت الّذي يحتوي رفات حضرة عبد البهاء إلى مقرّه الأخير عَلَى أكتاف أحبّائه، وتقدّمت موكب الجنازة كوكبة من بوليس المدينة كحرس شرف، تلاها بالتّرتيب فريق الكشّافة الإسلاميّة والمسيحيّة رافعين أعلامهما، ثم طائفة من المرتّلين المسلمين يرتّلون آيات القرآن، ثمّ أقطاب المسلمين وعلى رأسهم المفتي، ثمّ بعض القساوسة اللاتين واليونان والانجليكان.

وسار خلف التّابوت أفراد عائلته والسّير هربرت صمويل المندوب السّامي البريطاني والسّير رونالد ستورز حاكم القدس والسّير ستيوارت سيمس  حاكم فينقيا ورجال الدّولة وقناصل الدّول المختلفة المقيمين بحيفا، ووجوه فلسطين من المسلمين واليهود والمسيحيّين والدّروز، كما سار المصريّون واليونان والأتراك والعرب والأكراد والأوربّيّون والأمريكيّون رجالاً ونساء وأطفالاً، ورقى الموكب الثّاكل الطّويل فِي سيره البطيء بين نحيب القلوب المفجوعة وأنينها- سفوح الكرمل حتى وصل إلى مقام الباب.

وبجوار المدخل الشّرقي للمقام وضع التّابوت المقدّس عَلَى منضدة عاديّة، وبمحضر من هذا الجمع الحاشد ألقى تسعة خطباء من المسلمين واليهود والمسيحيّين خطبهم التّأبينيّة وكان من بينهم مفتي حيفا، فلمّا فرغ هؤلاء تقدّم المندوب السّامي من التّابوت وانحنى برأسه نحو المقام ورفع لعبد البهاء فروض الوداع الأخير، وحذا حذوه رجال الدّولة الآخرون. ثم نقل التّابوت إلى إحدى غرفات المقام، وهناك خفض بحزن وإجلال ووضع فِي مقرّه الأخير فِي مدفن مجاور لتلك الَّتي ترقد فيها رفات الباب.

وفي غضون الأسبوع الذي تلا صعوده كان الطّعام يقدّم يوميًّا فِي منزله لفقراء من حيفا يتراوحون بين الخمسين فقيرًا والمائة فقير، عَلَى حين فرّقت الحنطة لذكراه فِي اليوم السّابع فيما يقرب من ألف فقير بغضّ الطرف عَنْ عقائدهم أو أجناسهم، وفي اليوم الأربعين أقيم احتفال مهيب تخليدًا لذكراه دعي إليه ما يقرب من ستّمائة نسمة من أهالي حيفا وعكاء والأماكن المجاورة فِي فلسطين وسوريّا بما فيهم رجال الدّولة ووجوه من مختلف الملل والأجناس، وقدّم الطعام لأكثر من مائة فقير فِي ذلك اليوم أيضًا.

ونهض أحد الضيوف المجتمعين – وهو الحاكم فينقيا فألقى خطابه التّأبينيّ الأخير لذكرى حضرة عبد البهاء بقوله: “أعتقد أن لدى الكثيرين منّا صورة واضحة للسّير عبد البهاء عباس، لهامته الجليلة وهو يمشي مفكّرًا فِي شوارعنا، لمسلكه اللّطيف الرّقيق، لشفقته، لحبّه للأطفال والأزهار، لكرمه وعنايته بالفقراء المساكين، وقد بلغ من لطفه وبساطته أن كان المرء ينسى أنّه بمحضر معلّم عظيم، وأنّ كتاباته وأحاديثه ما زالت عزاء وإلهامًا لمئات وألوف من النّاس فِي الشّرق والغرب”.

وهكذا انتهت ولاية من كان يجسّد بفضل المنزلة الَّتي وهبها إيّاه والده – مؤسّسة لا شبيه لها فِي التّاريخ الدّيني كلّه، وهي ولاية تشير إلى المرحلة النّهائيّة من العصر الرّسولي البطولي ألا وهو أمجد عصور دورة حضرة بهاء الله.

على يديه تمّ إعلان الميثاق ذلك “الميراث المرغوب الّذي لا عدل له” الّذي أورثه إيّاه مؤسّس الدّورة البهائيّة، كما تمّ الدّفاع عنه وثبتت حقيقته، وبتلك القوّة الَّتي منحته إيّاها هذه الأداة الإلهيّة المقدّسة اخترق الغرب نور دين الله الجديد، وانتشر حتى جزائر المحيط الهادئ، وأضاء حواشي قارة استراليشيا، وبتدخّله الشّخصي ذاع صيت الرّسالة الَّتي ذاق حاملها مرارة الحبس مدى حياته، وتجلّت طبيعتها وغايتها لأوّل مرة فِي تاريخها أمام جموع من المستمعين المتحمّسين من كافّة الأجناس والطّبقات فِي أهمّ مدن القارّة الأوروبّية والأمريكيّة الشّماليّة، وبسهره الدّائب نقلت رفات حضرة الباب (بعد إخفائها خمسين سنة) إلى الأرض المقدّسة آمنة، واستقرّت استقرارًا خالدًا لائقًا فِي البقعة الَّتي عيّنها حضرة بهاء الله بنفسه وباركها بمحضره، وبفعاليّته الجريئة شيّد فِي آسيا الوسطى، فِي تركستان الرّوسية أول “مشرق الأذكار” فِي العالم البهائي، وبتشجيعه الدّائم بدأت مهمّة مماثلة ولكنّها عَلَى نطاق أكبر، وبارك لها أرضًا فِي قلب قارة أميركا الشّماليّة، وبفضل العناية الَّتي ظلّلته منذ افتتاح عهده ذلّ عدوّه السّلطانيّ حتّى تساوى بالتّراب، واستؤصلت شأفة النّاقض الأكبر لميثاق والده وزال زوالاً نهائيًّا ذلك الخطر الّذي كان يتهدّد قلب الدّين منذ أن أخرج حضرة بهاء الله إلى الأراضي التّركيّة، وبمتابعته لتعليماته وعمله بمقتضى المبادئ والشّرائع الَّتي سنّها والده تشكّلت الهيئات الأساسيّة المبشّرة بالافتتاح الرّسمي للنّظام الإداريّ الّذي أخذ يتأسّس بعد صعوده، وبمجهوده المتواصل اتّضحت المبادئ والتّعاليم الَّتي تكوّن لحمة إلهام والده وسداه وتدعّمت أصولها الأساسيّة وشرحت ونفذت موادها تنفيذًا مفصلا وتجلّت صحّة حقائقها وضرورتها تجلّيًا كاملاً، كما يتّضح ذلك من موضوعاته الَّتي كتبها، وآلاف الألواح الَّتي أنزلها، وخطبه ومناجاته وأشعاره وتفسيراته الَّتي خلّفها للأجيال القادمة ومعظمها بالفارسيّة وبعضها بالعربيّة وقليل منها بالتّركيّة، وبالإنذارات الَّتي نطق

بها قدّرت للانسانيّة الغافلة الغارقة فِي المادّيّة النّاسية لربّها الأخطار الَّتي تهدّد حياتها المنظّمة، واضطرّت – نتيجة لضلالها الملحّ – إلى أن تتحمّل وقع الصّدمات المبدئيّة لهذا الانقلاب العالميّ الّذي ما زال إلى يومنا هذا يزعزع أسس المجتمع الإنسانيّ، وأخيرًا بذلك التّوكيل الذي أعطاه للجامعة الجريئة الَّتي سكبت فتوحات أفرادها الرّاسخة نورًا وهّاجًا عَلَى صفحات ولايته، أقول بهذا التّوكيل نفّذ خطّة استطاعت – بعد افتتاحها الرّسميّ مباشرة – أن تفوز بفتح قارة أستراليا، وعملت فيما بعد عَلَى اجتذاب قلب ملكة مؤمنة إلى دين والده، وما زالت إلى اليوم بفضل تفتّح إمكانياتها تفتحًّا لا يقاوم ترقى بالحياة الرّوحيّة رقيًّا مدهشًا فِي كافة جمهوريّات أميركا اللاتينيّة فلا تلبث حتّى تكتب خاتمة لائقة لتاريخ قرن كامل.

الأوسمة: , , , , , , , , , , , , , ,

أضف تعليق